مسرحية "حكي قرايا وحكي سرايا" والوَعد الذي لن يخيب

د. نبيه القاسم *
الثلاثاء 9/10/2007

إعداد وإخراج  نبيل عازر
 

     يشكو المخرجون المسرحيون، كما في عالمنا العربي كذلك عندنا هنا، من نَدرة المسرحيات والروايات العربية التي يمكن تقديمها على خشبة المسرح. قد أشاركهم في بعض الشكوى، ولكن حضوري مساء الخميس 4/7/2007 لمسرحية "حكي قرايا وحكي سرايا" جعلني أتراجع قليلا وأعيد تقييم الموقف من جديد. وهي المسرحية التي أعدّها وأخرجها الفنان ابن الرامة نبيل أسعد عاز وقام بإعداد الديكور والملابس فيها ابن الرامة الفنان أشرف نافذ حنا إضافة إلى موزّع الأغاني ريمون حداد والمشرف على الإضاءة نزار خمرة مع كوكبة من الممثلات والممثلين: حنان حلو وحنا شماس وربيع خوري وعنات حديد وحسن طه ونضال بدارنة.
     هذه المسرحية ليست مسرحية في الأصل، وإنما خلاصة عشرات القصص والنّصوص الشعبية التي كتبها الكاتب اللبناني سلام الراسي (1911-2003) وجمعها في كتاب "حكي قرايا وحكي سرايا" الصادر عام 1976.
     تميّز سلام الراسي بحسّه الإبداعي الشفّاف وبانفتاحه على الريف اللبناني وأهل الريف، فراقب حياتهم بتفاصيلها اليومية، وتتبّع أخبارهم ووقف على السحر في لغتهم التي يتحدثون ويتحاورن بها. وجذبته الكلمات المميزة الخاصة والحركات العفوية البريئة التي يطلقها أحدهم، رجلا كان أم امرأة، ولا أحد يلوم أو يُعاتب على هذه الكلمة أو على تلك الحركة، فالكل يحبّ الكل، والكل يُشارك الكلّ في حياته اليومية، في همومه واحزانه وافراحه.
     وكما فعل سلام الراسي حرصا منه على حفظ هذا التراث العظيم الذي يصنعه الفلاح البسيط يوميّا بتسجيله على شكل نصوص أدبية وقصص أخّاذة تشدّ إليها القارئ وتسحره بمضامينها وأسلوبها ولغتها. هكذا أراد الفنان نبيل عازر أن يُخرج كلا منّا من وحدته وهمومه ومشاغله ليُعيّشنا بعض الوقت في واقع جميل طالما سمعنا عنه وحفظنا له بعض الحنين، ليس حبّا في الفقر المدقع الذي عانى منه الناس ولا الظلم الذي مارسه الغريب والحاكم المحلي وإنّما الحنين لذلك الحب والتعاطف والتعاون والمشاركة التي كانت تسود يبن الناس وتجعل حياتهم البائسة نعيما يرفلون به.
     وكما فعل سلام الراسي في قصصه، حيث استحضر عشرات من النماذج البشرية الموجودة في الواقع. هكذا اهتم نبيل عازر أن يقدّم نماذج مختلفة ومتباينة من شرائح الناس التي قدّمها سلام الراسي، مثل عسّاف الشاب الذي عمل في صناعة جلالات للحمير بعد أن توقّف عن دراسة اللاهوت، وشكر الله فلاح يضيق بكلام زوجته وإلحاحها وشكرية زوجة شكر الله التي ظلّ شُغلها الشاغل  التفكير بتزويج ابنها الفتى الصغير. وأبو كايد راعي الماعز الذي قضى عمره صامتا برفقة قطيعه،  ويريد بعد أن تقدّمت به السنون أن يفرغ ما أضمر طوال حياته من كلام وقصص يبدأها ولا يعرف كيف ينهيها.
     والخوري مخائيل الذي يتقن وصف جهنم وأساليب التعذيب التي تنتظر المخطئ بعد موته، وأبو جميل الذي يدّعي اتقان عدة مهن ولا يزاول أيّا منها. وأم منصور التي رحل زوجها للتجارة وربح المال ولكنه لم يعد وهي تعيش وحيدة تنتظره ولا تعرف إذا كان سيعود إليها أم لا، ولطيفة زوجة عسّاف تعاني من عقم زوجها وتحاول تهدئته وطمأنته أن هذا العقم سينتهي.
     وحسني أفندي الرجل الوصولي المنتفع الذي يتوسّط بين الفلاحين والحاكم التركي في الكثير من القضايا، ورجب شاويش الضابط التركي الذي يعمل على تطبيق قانون الخدمة الإجبارية على الشباب مستغلا مركزه لأخذ الرشى وتجميع المال.
     ليس الهدف هو عرض هذه النماذج البشرية التي قد يتساءل البعض وما علاقتها بحياتنا نحن هنا وفي هذا الزمن البعيد والغريب عن زمن هذه الشخصيات، لكن التريّث يضعنا أمام حقيقة خالدة أن الهموم الانسانيّة هي واحدة في كل عصر ومكان. فالقضايا التي أراد المخرج نبيل عازر أن يطرحها هي قضايا حياتية نعاني منها، مثل الشعور بالوحدة والرغبة في مشاركة الآخرين لنا في حياتنا وهمومنا الذاتية وغير الذاتية في هذا الوقت الذي ينزوي كل واحد ليتقوقع مع نفسه بعيدا عن التحوّلات السريعة والمزعجة والمرفوضة في كل بلد وبلد. وقضية العقم وما قد تسبب من مشاكل رغم اننا نعايش التطوّر الطبي وإمكانية التغلّب على كل مشكلة كهذه وما يعانيه الانسان في تقدّمه بالسن من مضايقات وإهانات واعتداءات حتى من أقرب الناس إليه.
      وفي اعتقادي أن القضيّة الأهم التي أراد نبيل عازر طرحها للمناقشة هي قضية التجنيد الاجباري . هذه القضية الساخنة التي تواجهها الآن  جماهيرنا العربية من مسلمين ومسيحيين على ضوء التقارير التي تؤكد ازدياد عدد المتجندين في قوات الأمن المختلفة وفي المنتسين للخدمة الوطنية أملا في الفوز بكامل الحقوق المنقوصة.
     لقد طرح المخرج هذه القضية بكل حدّتها وقسوتها فأن يُطلب من إنسان الالتحاق بالخدمة العسكرية وفي جيش ليس جيشه، خاصة في زمن الحرب، يعني أنه قد يعود أو لا يعود وأن حياته تحدّدت ، وأن يرفض يعني أنّ عليه اختلاق السبب المقنع لإعفائه ويكون غالبا باللجوء للمرض النفسي أو العقلي كي ينال الواحد شهادة الخلاص من الخدمة العسكرية. والحصول على الشهادة تكون البداية للملاحقات والمضايقات والصعوبات في كل خطوة يخطوها في حياته. 
     مئات الشباب أبناء الطائفة الدرزية عبروا طريق الآلام هذه. وحملوا الشهادة إيّاها وعانوا الملاحقات والمضايقات وواجهوا الصعوبات، وكل ذلك حتى لا يقوموا بالخدمة العسكرية بما يتنافى مع موقفهم وقناعاتهم ووجودهم.
     لقد نجح جميع الممثلين بأداء أدوارهم وتألّقت بشكل خاص حنان حلو في أدائها لدور أم منصور ومثلها أبدع حنا شماس في قيامه بدور عسّاف وخاصة في تأديته لمشهد الجنون حتى يجعل المشاهد يعتقده قد جُنّ فعلا.
     وكان للديكور واختيار الملابس القسط المهم في نجاح المسرحية حيث أدخلت الجميع في جوّ القرية ليتفاعلوا مع الناس في حياتهم اليومية وهمومهم لأنّ مرأى الانسان الخارجي عامل فعّال في تعرّفنا على حياته ودواخله وهمومه ومن ثم على أحلامه التي يتمنى لو تتحقق.
     لقد نجح الممثلون بحيويتهم وصدقهم وطبيعتهم ولغتهم العفوية الواضحة وحركاتهم أن يشدّوا المشاهدين إلى تتبّع الأحداث ومعايشتها من اللحظة الأولى حتى النهاية.
     ثقتي أن النجاح الذي حققه القائمون على هذه المسرحية سيدفعهم للمزيد من الجهد والعمل وتقديم الأفضل دائما .. وألف ألف تحيّة.