مسرحية "جنون" وضرورة أن أعيش


 

الأربعاء 28/9/2005

د. حبيب بولس

إن عصرنا الحاضر بحكم ما طرأ عليه من تطور ومستجدات وبحكم الظروف صار يفرض علينا رؤية جديدة بعيدة عن النظرة البانورامية الشاملة والبرّانية والأفقية للمجتمع وللناس، قريبة الى النظرة الجزئية والرؤية المصغرة او "الميكرورؤية"، رؤية عموديّة ذات تفاصيل صغيرة جوانية – من هنا ابتعد الفن عامة عن ان يكون محائية للسطح ونزل الى قاع المجتمع، قاع البشرية يمتح منهما حشِّياته ومكوناته ومحتوياته، بدلا من الوصف الخارجي للعلاقات وللناس وللمجتمع بكل ما فيه من امراض وادران وملابسات – كما صار- الفن، مولعا بتلك الدقائق، التفاصيل الصغيرة المتداخلة. من هنا فان المسرح المعاصر غيّر ما درجنا عليه من بهرجة خارجية ومشاهد فرجوية مهرجانية احتفالية تقوم على صراعات برّانية، وصار يعتمد الصراعات الداخلية ومعاناة النفس البشرية في اغوارها، صار استبطانا وتغوراً واستباراً للنفس، بحيث صارت عين المسرح تتعمق الدواخل.
ما تقدم يقود الى تساؤل مشروع: أين مسرحنا المحلي من كل هذا؟؟ للحقيقة اقول: ان مسرح "الميدان" برؤيته الحضارية يعي هذا التحول وذلك لانه منذ فترة وجيزة قدم لنا عملاً فذاً من هذا النوع اعتبره الكثيرون قفزة نوعية في حينه أعني "رقصتي مع ابي" من اخراج منير بكري وتمثيل/أداء سلمى خشيبون.
واليوم يضعنا "الميدان" مرة اخرى امام عمل فني آخر هو مسرحية "جنون". و"جنون" هي مسرحية من تأليف الفنانة التونسية المعروفة "جليلة بكار" التي جمعت تفاصيل  نصها من صديقة لها تعمل طبيبة نفسية كانت كتبت الفحوى على شكل تقارير ويوميات. ولكن إبداع جليلة بكار ومهارتها الفنية حوّلا التقارير الى عمل درامي رائع.
المسرحية تقوم على مكاشفة عالم الجنون والانحرافات النفسية بقدرة اختزالية دون الوقوع في العاديّ والمألوف والمقولات الستيريوتيبية والأحكام المسبقة.
النص يقوم على تعدد الاصوات، فهو يجمع النثر والشعر، إنه نص توليديّ حافل بالرؤى الجديدة ويفيض بالصور الشعرية المبتكرة الطريفة. و"جليلة بكار" في نصها "جنون" تستبطن النفس البشرية وتتغورها وترصد صراعاتها الداخلية وتمزقاتها وتنزل الى قاعها بعيداً عن الصخب والشعارات الجاهزة الصارخة، إنما بشكل موحٍ ومكثف، كل ذلك يأتي من خلال رفض طبيبة نفسية لسياسة المؤسسة الطبية التي تعمل فيها والتي تمثل الخارج. مثل المؤسسة التي تتبع الاساليب المألوفة المتعارف عليها. بينما هي تصرّ على اتباع نهج جديد يقوم على الفهم والإنصات لصوت المريض وحديثة المعلن والمضمر، وعلى فهم الاساليب الاصلية التي تقف وراء انكساره النفسي والروحي. وذلك من خلال معاينة عائلته ومراقبة سلوكها وحيثيات حياتها. إن هذه المعاينة تدخل المتلقي الى متاهة مليئة بالتناقضات والمتنافرات وبتضافر عوامل عدة تؤدي الى مأزم العمل.
ينهض العمل على شخصيات اربع هي: نور، الطبيبة، الأخ، الأم، وهو يحكي عن مريض ذهني مصاب بانفصام في الشخصية يتمزق بين قطبين هما: الأب والمرأة. الأب المغيّب في العمل ولكنه الحاضر الدائم في "نور" فهو مسيطر عليه، يسكنه، يستعبده، يعرف خباياه، لذلك "نور" وعلى طول العمل ولعلّ هذا عذابه يشعر انه شخصان: هو وهذا الآخر. وهو يحاول طرد هذا الآخر أي طرد عذاباته، لانه طالما انّ الآخر مسيطر عليه، طالما انه سيظل غارقاً في عذابه. في نهاية المسرحية يتخلص "نور" من هذا الآخر وذلك يكون بمساعدة طبيبة نفسية كانت تحلم بتقويض المؤسسة العلاجية التقليدية والدخول في اعماق مريضها، وفعلاً نجحت في مسعاها وصارت تعالج "نور" خارج المشفى في بيته حيث هناك تتعرف على ظروفه ونشأته وبيئته وحيثيات حياته وعائلته. "نور" هو رهانها ومسؤوليتها في آن معاً وهو الذي جعلها تصحو على حقيقة فشل العلاج التقليدي المتبع. وعن طريق الحكي مع "نور" تصل الطبيبة الى جذور مأساته و"نور" يحب الحكي كي"يطلع ويخفف" عن نفسه، وطبيبته هي الوحيدة التي تسمعه. ومن خلال حديث "نور" وبوحه المتدفق كالسيل نتعرف على ظروفه، نتعرف على شخصية والده الميت المركبّة، والده الذي يتلبسه، فاذا هو سكيّر قاتل ظالم ساديّ يضرب أمه "ويجرها الى التخت تحتمي بنور عشان ما يدقرهاش". لذلك كان "نور" يهرب دائماً من البيت الامر الذي دفع بوالده الى "رميه في الاصلاحية ليتخلص منه"، من هنا يكتسب "نور" العديد من المتناقضات والاحاسيس التي تؤرقه وتعذبه وتشوه صورته ومسلكه. هذه التناقضات زرعها فيه والده فهو شخصية مركبة حافلة بالتناقضات "يصلي ويشرب، يربي ويكذب، ينهي ويعصي، يضرب ويبكي، يوعظ ويفسي"، كما يقول "نور" عنه. لذلك في جوّ موبوء كهذا يكون كحل عند نور "الهرب من كل شيء في حياتي هروب" حتى من نفسه.
بالاضافة الى شخصية الأب، هناك شخصية اخرى تعذب "نور" هي شخصية الأخ وهي شخصية شائهة غارقة في الزنى وفي المخدرات ناقمة على كل شيء بسبب زوجته الالمانية التي هربت مع طفلها. الأخ وهو سجين سابق، هو عذاب "نور" الآخر، وحين تحرره من السجن يهرب "نور" الى الشاطئ الذي يشكل ملجأه الدائم، وهناك نسمع  رأيه في الناس: "مثل النمل، متكاثرين، متخالفين، متكالبين، متخانقين، متناكحين، ومخيّ بعيد". فيشعر بان "الدنيا كلها عفن". بسبب هذا الأخ "السّارومازوخي" الذي يستغل جسديا وجنسيا، والذي يضرب "نور" ويعذبه، يتحول "نور" الى انسان ناقم على كل شيء فهو يريد "تفجير كل البشر"، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فبسبب والده وأخيه يغيب عن نفسه- يجهلها: "اين هي نفسي؟ أنا مين؟" يسأل "نور" طبيبته دائماً. ومن حديثه مع طبيبته وبوحه لها نتعرف على عالمه الجواني المصطرع، فالمسرحية توصي ولا تصّرح، تستبطن ولا تصرخ، تسير ولا تزعق، فعالم "نور" مظلم تعس: "سطولي فوق راسي" "الكل بتحكم فيّه" هذا هو شعور "نور" وهذا هو مرضه وعذابه. "أنا مين" اذاً! "أنا بكن العيلة والعادة والطمأنينة والهناء والانسجام والموّدة والانشراح والموسم والاعياد"، بمعنى ان "نور" يكون كل شيء في هذا الكون بسبب ضغط والده وضغط أخيه، لذلك يحسّ دائماً ان الناس تقرأ مخّه و"انه مشلّح".
ومن خلال بوح "نور" لطبيبته نتعرف ايضاً على طرف الصراع الآخر في نفسه وهو المرأة، فهو يكره المرأة يريد "ان يعجبها ان يقطعها" فهي "شيطان اذا اقتربت منه سكن فيك وتلبسك". لذلك يصب "نور" غضبه عليها فهو حتى حين خالف رأيه هذا واقترب منها أصيب بمرض الزهري. وكره "نور" للمرأة جاءه من أبيه الذي كان يحرص دائماً على تخديره منها. كما ان كرهه هذا جاءه من امه، تلك الأم الصابرة الفقيرة فهي أم لسجين ساقط، وأم لمريض، متزوجة لسكيّر ظالم، لكنها رغم ذلك كله- وهذه خطيتها بدلا من ان تقرّب "نور" منها وتحنو عليه وتحضنه في محنته، تبعده عنها، وتقرّب أخاه الأزعر وتفضله عليه. ومن خلال مشاعر "نور" نحو امه نعرف محنته، فهو يريد صدراً حانياً محبّاً، وحضناً دافئاً، وحباً يغمره، وجناحين يضمانه ليشعر بالامان. وهذا ما لم يجده في أمه. من هنا تصبح علاقة "نور" بالطبيبة علاقة حبّ رغم انها تكبره، سناً فقد بصر فيها المصغي الوحيد والحضن الدافئ، لذلك يرجوها في نهاية المسرحية ان تحبه. "حبيني" يقول لها/ لان الحب هو ما ينقصه.
في هذا العالم القاسي المعادي. كلاهما وحيد، هكذا يشعر "نور" فيكتب لطبيبته رسالة تبوح بمكنونه وبأحاسيسه تحمل عذاباته وحبه لها: "حبها عقّله ارجع النور لعقله ولعينيه، وحلّ عقدة به" "حبيتك قد ما حبيت ابوي وكرهتك قد ما كرهته" يقول "نور"، ولكنه لا يريد حباً مظهرياً فقط إنما ما يريده منها هو حبّ متبادل "حبيني مثل ما بحبك". وهذه هي قمة المسرحية. فبالحب وحده يكون خلاص "نور" من ذهنيته، بالحب يصل "نور" الى الحقيقة لوحده- تلك الحقيقة التي لا يريد  ان يراها احد. "ما حدا بحب يشوف الحقيقة، الناس كلها بتخاف من نفس الشيء". بالحب لوحده يستطيع "نور" ان يطرد أباه منه "أبوي عايش مسيطر وميت مسيطر" "ساكن فيّي مستعبدني، دمرني، كسرني". لذلك هو يريد طبيبته الى جانبه بحنانها باصغائها بتفهمها له. فـ"الدنيا لعبة، بدي أعيش وأقف، وإذا وقعت بعاود بقوم". وكي يصل "نور" الى هذا كله فهو محتاج الى هذا الحب. وتأتي قفلة المسرحية في النهاية رائعة، حيث تفتح كوّة من الأمل:
"الطبيبة: نور أيش بتحب تكون؟ نور: عايش، عايش، عايش، عايش وأخلف".
والمرمى واضح فهو يريد ان يعيش دون قيود (الأب/الأم/الأخ/المشفى) إنه حلم انساني كبير أن أعيش على طبيعتي منطلقاً دون تدخل أحد وتحكم أحد. هذا هو مأزم المسرحية وهذه هي مقولتها، تُطرح من خلال نفسية إنسان مريض يعاني الانفصام، نفسية متعبة ولكنها فوّارة، وتواقة الى الحياة والحب رغم كل شيء، ولكن ليس كما يرسمها له الآخرون إنما كما يتشهّاها هو.
* هذه هي مسرحية "جنون" التي شاهدناها مؤخرا على خشبة مسرح "الميدان" وهي تقرب كل ما ذكرناه تلميحاً، وهي حافلة بعالم جواني فوار، شائه، تؤشر على مجتمع متناقض قاس لا يرحم، يخلق في رحمه حالات كحالة "نور" حالة إنسان مشوه من الداخل بسبب ما وجده في محيطه من فقر وظلم وتمييز وعذاب واستغلال، مجتمع لا يرى فيه "نور" بصيص أمل يفيء اليه وينقه مما هو فيه، لا في البيت ولا في المشفى. أمله الوحيد طبيبته المتفهمة التي تصارع هي الأخرى التقاليد المتبعة في مؤسستها، تلك التقاليد التي "تكتّفها" وكذلك تصارع عائلة "نور" التي تنفر منها ولكنها "مش مستسلمة شادة فيه، مكبتة، مش بإيديها، وباجريها، بمخالبها واسنانها". هذا الاصرار هو نقطة الامل الوحيدة لنور. ولنلاحظ المتوازية الجميلة في المسرحية: المشفى يقابله المجتمع. الأطباء الثلاثة يقابلهم البيت/العائلة/الأب/الأم/الأخ –وهكذا- تسير المسرحية ملمّحة من خلال هذه المتوازية الرامزة.
هذا العالم الجنوني الزاخر من الصعب تحويله الى عمل ممثل على خشبة مسرح، ولكن للحقيقة أقول ان المخرج الفنان سامح حجازي استطاع ان يخترقه وان يكتبه مسرحياً من جديد مضيفاً على النص ابعاد أخرى، ومشرعا أبوابا ونوافذ استطاع المتلقي من خلالها ان ينفذ الى رؤى العمل ومقولاته المضمورة والمغيبة، وكل ذلك بفنية راقية هادئة فسامح، فنان قدير معروف ملتزم يتقن اللعبة المسرحية ولأجل خبرته أحسّ بغنى النص فتركه ينساب بحرية دون تقييد، ودون ان يثقل عليه ويحمله أكثر مما يحتمل. من هنا انساب النص مسرحيا اما المتلقي فواراً كاسحاً، وهذا ما أراد له المخرج، لذلك استبعد استخدام تقنيات تعيق هذه الانسيابية المتدفقة، معتمداً على مكنون النص وعلى قدرات طاقم المسرحية. فجاء العمل المسرحي متكاملاً تضافرت فيه عوامل كثيرة فجعلته يؤالف ويوائم بين رؤية المخرج والأداء والمؤثرات.. وحقيقة هي لقد لعب الممثلون وأدوا أدوارهم بمهارة. الأخ "جواد عبد الغني" الذي أدى دوره بإخلاص، لقد ظهر "جواد" على خشبة المسرح رجلا لا مباليا، شائها، مستخفا، ناقما، سواء أكان ذلك في حركات جسده او في كلامه. الأم "عرين عابدي"، هي الاخرى أدت دورها لإخلاص فقد بدت أمّأً مكسورة محطمة داخليا وخارجيا مهمومة تصارع على اكثر من جهة، في كلامها، في تثاقل خطواتها وفي حركاتها. "حنان حلو" لعبت دورها بتميُّز وبامتياز وبمهارة فائقة وقد كانت منسجمة مع دورها حدّ التماهي فتألقت خاصة في مونولوجها الداخلي وفي صراعها مع مشفاها ومع العائلة، سواء بحركات جسدها ووجهها، أو في الهدوء النفسي الذي كانت تواجه به ثورة نور، او في ثورتها على نور حين يقع فريسة لمرضه.
ولكن المفاجأة الكبرى كانت أداء "صالح بكري" الذي قام بدور "نور". و"صالح" قام بأداء دور صعب معقد، ولكنه استطاع بحركاته الجسدية وبكلامه المتقطع وبخطواته المهتزة وبحركات وجهه المتغيرة ان يؤدي الدور بمهارة وبأمانة. لقد ظهر لنا "صالح" طاقة مدهشة بما يختزنه منقدرات فنية تمثيلية وتعبيرية. ولعله من المعروف ان أصعب الأدوار المسرحية عي تلك الادوار التي تتعامل مع مشوّهين من الداخل. ولكن "صالح" استطاع ان يبرز جوانية الشخصية المصطرعة وان يفشل مشاعره الداخلية المشوهة ويرفعها الى السطح، بوحاً ودفقاً بفنية راقية. وقد لعبت التقنيات على بساطتها "نزار خمرة" والإضاءة والديكور "موشيك يوسبوف"، والملابس والمكياج "نجدية ابراهيم"، والصوت "طارق شحيبر" دوراً بارزاً في ارساء المناخ العام والخاص للشخصيات وفي تعميق النص وابراز ابعاده. ولكن ما يلفت التظر هو الإعداد الفذّ للمسرحية "تامر سلمان" فالحقيقة أعد "تامر" نصاً خصباً فأثراه وأغناه بشاعرية جميلة وبلغة عامية موحية رائعة تقوم على الترادف والتخالف بحيث أضفت اللغة على الكلام موسيقية جميلة قريبة من هذيان الجنون وأضغات الأحلام، نثراً وشعراً.
فالتحية الخالصة للمخرج وللممثلين ولطاقم العاملين والتقنيين ولمسرح الميدان، لأنهم منحونا ساعة زمنية من الفن الجميل ابتعدنا فيها عن همومنا اليومية الرتيبة.
وإذا كان لنا بعض الملاحظات على ما شاهدناه فهي ملاحظات بسيطة لا تنقص من المجهود المبذول اختصرها بما يلي:
1- شعورنا بالبطء والتناقل في مفاصل العمل، بحيث كان التنقل من مشهد الى آخر يتم يتثاقل وبارتخاء احيانا.
2- دور الأخ، لقد كان الدور احيانا يبدو باهتا على أهميته في التأثير على شخصية "نور" في رأيي علىالمخرج ان يعمق الدور اكثر ليصير مقنعاً للمتلقي.
3- تعميق النهاية حتى تترك اثرها اللازم، لقد مرّت بسرعة مع انها نقلة محملة بالكثير من الايحاء والترميز ولعمق.
4- "جواد عبد الغني" على تجربته الغنية، بدا في بعض المشاهد بعيداً عما يجري، يسقط كلامه بلا احاسيس ومشاعر فحبذا الاهتمام بذلك ليكون الأداء مقنعاً.
وإلى لقاء قريب مع عمل جديد. شكراً مسرح "الميدان".